فصل: الفصل الثامن في إخفاء ما في الكتب من السر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثامن في إخفاء ما في الكتب من السر:

وهو مما تمس الحاجة إليه عند اعتراض معترضٍ من عدو ونحوه يحول بين المكتوب عنه والمكتوب إليه، من ملكين أو غيرهما حيث لم تفد الملطفات لضرر الرصد وزيادة الفحص عن الكتب من الجانبين، وهو على نوعين.
النوع الأول ما يتعلق بالكتابة وهو على ضربين:
الضرب الأول: ما يتعلق بالمكتوب به:
وذلك بأن يكتب بشيء لا يظهر في الحال، فإذا وصل إلى المكتوب إليه فعل فعلاً مقرراً بين المتكاتبين من إلقاء شيء على الكتابة، أو مسحه بشيء، أو عرضه على النار ونحو ذلك.
وقد ذكروا لذلك طرقاً: منها- أن يكتب في الورق بلبنٍ حليبٍ قد خلط به نوشادر فإنه لا ترى فيه صورة الكتابة، فإذا قرب من النار ظهرت الكتابة.
ومنها- أن يكتب في الورق أيضاً بماء البصل المعتصر منه فلا ترى الكتابة، فإذا قرب من النار أيضاً ظهرت الكتابة.
ومنها- أنه يكتب فيما أرد من ورق أو غيره بماءٍ قد خلط فيه زاجٌ، فلا تظهر الكتابة، فإذا مسح بماءٍ قد خلط فيه العفص المدقوق، ظهرت الكتابة.
ومنها- أن يكتب في الورق غير المنشى بالشب المحلول بماء المطر، ثم يلقيه في الماء أو يمسحه به، فإنه إذا جف ظهرت فيه الكتابة.
ومنها- أن يكتب بمرارة السلحفاة فإن الكتابة بها ترى في الليل ولا ترى في النهار.
ومنها- أن تأخذ الليمون الأسود وعروق الحنظل المقلوة بزيت الزيتون جزءين متساويين وتسحقهما ناعماً، ثم تضيف إليهما دهن صفار البيض وتكتب به على جسد من شئت، فإنه ينبت الشعر مكان الكتابة، وهو من الأسرار العجيبة، فإذا أريد إرسال شخصٍ بكتابٍ إلى مكانٍ بعيدٍ، فعل به ذلك، فإنه إذا نبت الشعر قرئت الكتابة.
الضرب الثاني: ما يتعلق بالخط المكتوب:
بأن تكون الكتاببة بقلمٍ اصطلح عليه المرسل والمرسل إليه لا يعرفه غيرهما ممن لعله يقف عليه، ويسمى التعمية، وأهل زماننا يعبرون عنه بحل المترجم، وفيه نظر؛ فإن الترجمة عبارةٌ عن كشف المعمى، ومنه سمي المعبر لغيره عن لغة لا يعرفها بلغةٍ يعرفها بالترجمان، وإليه ينحل لفظ الحل أيضاً، إذ المراد من الحل إزالة العقد فيصير المراد بحل المترجم ترجمة المترجم أو حل الحل، ولو عبر عنه بكشف المعمى لكان أوفق للغرض المطلوب.
ثم مبنى ذلك على قاعدتين: القاعدة الأولى- كيفية التعمية.
اعلم أن التعمية بالنسبة إلى كل واحد من الناس باعتبار ما يجهله من الخطوط، فيعمى على العربي في اللغة العربية بالخطوط غير العربية، كالرومية والعبرانية ونحوهما، إذا كانت حروف تلك اللغة توافق لغة العرب، أو بقلمٍ مصطلح عليه على وفق حروف العربية، وكذلك يعمى على غير العربي من الرومي ونحوه ممن يجهل الخط العربي بالقلم العربي، وعلى ذلك.
ثم للناس في التعمية مذهبان: المذهب الأول- أن يكتب بالأقلام القديمة التي ليست بمتداولةٍ بين الناس مما لا يعرفه إلا الآحاد، إذا وافقد ذلك القلم اللغة التي تريد الكتابة بها.
وقد ذكر ابن الدريهم أن أقل اللغات المغل وهو سبعة عشر حرفاً، وأطولها الأرمني، وهو ستةٌ وثلاثون حرفاً. ثم قال: والتركي عشرون حرفاً، وكذلك الفارسي إلا أن الفارسي ثلاثة أحرف ليست في التركي، وهي الهاء والفاء والدال. وفي التركي ثلاثة ليست في الفارسي، وهي الصاد والطاء المهملتان والقاف، والعبراني والسرياني اثنان وعشرون حرفاً من أول أبجد إلى آخر قرشت. واليوناني والرومي القديم أربعةٌ وعشرون حرفاً ولهم قلمٌ آخر ثلاثون حرفاً، والقبطي اثنان وثلاثون حرفاً، وذكر أن جميع الأقلام مقطعة الحروف على اصطلاح أبجد، خلا العربي والمغلي والسرياني فإن حروفها توصل وتقطع، وقطع السرياني كالعربي، وأقلام المتقدمين المقررة، كالرومي والفرنجي وغيرهما معلومةٌ لا حاجة إلى التمثيل بشيءٍ منها.
المذهب الثاني- أن يصطلح الإنسان مع نفسه على قلم يبتكره وحروف يصورها، وقد ذكر ابن الدريهم أن الناس اختلفت مقاصدهم في ذلك؛ فمنهم من يصطلح على إبدال حرفٍ معين بحرف آخر معين حيث وقع في القلم المعروف بالقمي، وهو أنهم جعلوا مكان كل حرف من حروف العربية حرفاً آخر من حروفها، فجعلوا الكاف ميماً وبالعكس، والألف واواً وبالعكس، والدال المهملة راءً مهملة وبالعكس، والسين المهملة عيناً مهملة وبالعكس، والفاء ياءً مثناة تحتيةً وبالعكس، فيكتب محمد كطكر وعلي سهف ومسعود كعسار وعلى ذلك، وقد نظم بعضهم ذلك في بيتٍ واحد ذكر فيه كل حرف تلو ما يبدل به، وهو: [سريع]
كم أو حطٍ صلا له در سعٌ ** في بز خشٍ غضٍّ ثج تدفق

قال: ومنهم- من يعكس حروف الكلمة فيكتب محمد دمحم وعلي يلع.
ومنهم- من يبدل الحرف الأول من الكلمة بثانيه مطلقاً في سائر الكلام فيكتب محمد أخو علي حمدم خا عويل إلى غير ذلك من التمييزات.
ومنهم- من يبدل الحروف بأعدادها في الدمل، فيكتب محمد أربعون، وثمانية، وأربعون، وأربعة، وتعمل التعمية صفة محاسبة.
ومنهم- من يكتب عوض عدد الحرف حروفاً وهو أبلغ في التعمية، فيكتب محمد لي بو لي أج لأن اللام والياء بأربعين وهي عدد ما للميم الأولى، والباء والواو بثمانية وهي عدد ما للحاء، واللام والياء أيضاً بأربعين وهي عدد ما للميم الثانية، والألف والجيم بأربعة وهي عدد ما للدال، فكأنه قال: م ح م د. وإن شاء أتى بغير هذه الحروف مما يتضمن هذه الأعداد.
ومنهم- من يجعل لكل حرفٍ اسم رجل أو غيره.
ومنهم- من يضع الحروف على منازل القمر الثمانية والعشرين على ترتيبها على حروف أبجد، فيجعل الألف للشرطين، والباء للبطين، والجيم للثريا، وهكذا إلى آخرها، فيكون بطن الحوت للغين من ضطغ. وربما اصطلح على الترتيب على أسماء البلدان أو الفواكه أو الأشجار أو غير ذلك، أو صور الطير وغيره من الحيوانات، إلى غير ذلك من ضروب التعامي التي لا يأخذها حصر. وأكثر أهل هذا الفن على أن يرسم الحروف أشكالاً يخترعها قلماً له مقطعة على ترتيب حروف المعجم. والطريق في ذلك أن يثبت حروف المعجم ثم يرتب تحت كل واحد شكلاً لا يماثل الآخر، فكلما جاءه في اللفظ ذلك الحرف كتبه بحيث لا يقع عليه غلطٌ، ثم يفصل بين كل كلمتين، إما بخط أو بنقط أو ببياض أو دائرة أو غير ذلك، وأكثر المتقدمين يجعلون الحرف المشدد بحرفين، والمتأخرون يجعلونه حرفاً واحداً، وهذه صور حروف مترجمٍ كان قد وصل إلى الأبواب السلطانية من مناصحين في بغداد يقاس عليه.
القاعدة الثانية- حل المعمى، وهو مقصود الباب ونتيجته.
ويحتاج المتصدي لذلك مع جودة الحدس وذكاء الفطرة أن يعرف اللغة التي يروم حل مترجمها مما وقع به التعمية فيها، ومقدار عدد حروفها، ولا خفاء في أن حروف العربية ثمانيةٌ وعشرون حرفاً، ويجب أن يعرف الحروف التي تدخل كل لغة والحروف الممتنعة الوقوع فيها كما تقدم.
ثم المعول عليه، والمنصب القول إليه، فيما هو متعارف في هذه المملكة لغة العرب التي هي أشرف اللغات وأبذخها.
والناظر في حل مترجمها يحتاج إلى أصلين: الأصل الأول- معرفة الأس الذي يترتب عليه الحل، والذي تمس إليه الحاجة من ذلك سبعة أمور: أحدها- أن يعرف مقادير الحروف التي تتركب منها الكلمة.
واعلم أن كلام العرب منه ما يبنى على حرفٍ واحدٍ مثل ق من الأمر بالوقاية، وع من الأمر بالوعي، ومنه ما يبنى على حرفين من الأفعال مثل قم في الأمر بالقيام، وكل في الأمر بالأكل، ومن الحروف نحو: من في رب هل بل وما أشبه ذلك. ومن الأسماء المبنية نحو: ذي، ذا، من، كم، ومن الضمير مع حروف الجر نحو: بك، له. ومنه ما يبنى على ثلاثة أحرفٍ وأربعةٍ وخمسة في الحروف والأفعال والأسماء، ثم تدخل فيه أحرفٍ وأربعةٍ وخمسة في الحروف والأفعال والأسماء، ثم تدخل فيه أحرف الزيادة العشرة، وهي هويت السمان وثلاثة أحرف أخر، وهي الفاء وباء الجر وكاف التشبيه وكاف الخطاب إلى أن تبلغ الكلمة على اصطلاح الكتاب أربعة عشر حرفاً، كقولك مخاطباً لرجلين أنشآ جنينةً: أفلمستنزهاتكما أعددتماها.
قال ابن الدريهم: وليس في كلام العرب كلمةٌ رباعية الأصل أو خماسية الأصل ليس فيها حرف من الحروف الذلقية كاللام والنون والواو، والشفوية كالفاء والميم والباء إلا ما شذ مثل عسجد من أسماء الذهب.
قال: ونهاية الأسماء العربية قبل الزيادة خمسةٌ، وشذ؟ مثل عندليب، والأفعال قبل الزيادة أربعةٌ، وليس في القرآن كلمة خماسية الأصل سوى الأسماء الأعجمية مثل إبراهيم، ولا يمكن أن يتكرر حرفٌ في كلمةٍ واحدةٍ أكثر من خمسة كقول القائل ما رأينا كككاً كككككم جمع ككة وهو المركب الكبير مثل عكة وعكك، وأربع كافات في قولك وككعكك.
الثاني- أن يعرف الحروف التي لا يقارب بعضها بعضاً بمعنى أنها لا تجتمع في كلمةٍ واحدة.
واعلم أن في الأحرف ما لا يقارب بعضه بعضاً مطلقاً بتقديم ولا تأخير كالثاء المثلثة، فإنها لا تقارب الذال المعجمة والزاي المعجمة والسين والصاد المهملتين والضاد المعجمة، وكذلك الجيم لا تقارب الطاء المهملة ولا الظاء المعجمة ولا الغين المعجمة ولا القاف ولا الكاف، وما وقع من ذلك في الكلام نحو: نغجة وبرجق وجولق وجلاهق ومنجنيق وجوقة وجوسق وضنجق وسنجق وجردق ونحو ذلك فليست عربيةً؛ لأنه لا يجتمع في كلام العرب جيم وقاف في كلمةٍ واحدة، وكذلك الدال المهملة لا تقارب الظاء المعجمة والذال المعجمة لا تقارن الزاي المعجمة والصاد والضاد والطاء والظاء، وما وقع في الكلام من ذلك فليس بعربي، مثل طبرزد فارسي والزط نبطي، ولا تقارن السين المهملة الصاد المهملة والضاد المعجمة والظاء المعجمة، ولا تقارن الصاد المهملة الضاد المعجمة ولا الظاء المعجمة، ولا تقارن الضاد المعجمة الشين والظاء المعجمتين، ولا تقارن الطاء المهملة الظاء المعجمة، ولا تقارن القاف الغين المعجمة ولا الكاف في كلمةٍ أصلية، وشد نغق الغراب وناقة نغيق، ولا تقارن الكاف الخاء المعجمة في كلمة أصلية، ولا تقارن الميم الباء الموحدة والفاء في كلمة أصلية إلا في فمٍ وأصله فوه، وأما بمٌ لأحد أوتار العود فليس بعربي، والحروف الحلقية لا يقارن بعضها بعضاً خلا الهاء فإنها تعقبها زائدة، كهاء الضمير وهاء التأنيث، وتعقب العين أصليةً كالعهد والعهر وعهر، وليس في كلمةٍ أصلية حرفان حلقيان سوى ما تقدم من الهاء، وقد تعقب بواسطةٍ كغيهب وعبهر، أما حيهل فمركبة، ولا يجتمع حرفان من هذه الخمسة؛ وهي الهاء والطاء المهملة والعين والغين والخاء المعجمة في أول كلمة سوى ما ذكر، ولا في أثناء الكلمة إلا الهاء مع العين كهلع والهاء مع الغين كأهيغ، والخاء مع الغين كأخيغ، والهاء مع الخاء المعجمة في كلمة واحدة وهي هبيخة، ولا تجتمع الهاء الأصلية مع الخاء المعجمة، ولا الحاء المهملة والعين المهملة إلا أن تكون مركبة، مثل: هرقصع؟ والحيعلة.
الثالث- أن يعرف الحروف التي لا تقارن بعض الحروف في الكلمات إلا قليلاً، كمقارنة السين المهملة للشين المعجمة في شسع والشين مع الزاي كشزر والراء مع اللام كورل.
واعلم أن الحرف الواحد يتكرر في الكلمة الواحدة كثيراً مثل دهده وتهته ونهنه وحصحص وحبحب وحمحم وجلجل وخلخال وشعشعة وزعزع ودغدغ وبغبغ ونعنع وعسعس وزعازع وغوغاء وضحضاح وخوخ وما أشبه ذلك.
الرابع- أن يعرف ما يجوز تقديمه على غيره من الحروف وما يمتنع، فالثاء لا تتقدم الشين المعجمة، والدال المهملة لا تتقدم على زاي ولا صادٍ مهملة ولا طاءٍ مهملة بدليل أنهم لما عربوا مهندر، أبدلوا الزاي سيناً فقالوا مهندس وهندسة، والذال المعجمة لا تتقدم الجيم ولا السين المهملة ولا الشين المعجمة والا العين المهملة، ومن هنا لما عربوا الفالوذج من الفارسي قالوا فالوذق، والشين المعجمة لا تتقدمها الزاي المعجمة ولا السين المهملة ولا الصاد المهملة، والطاء المهملة لا تتقدم الكاف في كلمة أصلية، والسين المهملة لا تتقدم على الدال المهملة إلا قليلاً كسداب، والذال المعجمة لا تتقدم على الدال المهملة إلا قليلاً كقولك في الأمر ذد الغنم.
الخامس- أن يعرف ما لا يقع في أول الكلمات من الحروف كالجيم لا تقع بعدها التاء المثناة فوق ولا الصاد المهملة ولا الضاد المعجمة ولا الغين المعجمة، أما الجص فمعرب.
السادس- أن يعرف أنه لا يتكرر حرفٌ في أول كلمة إلا من هذه العشرة الأحرف وهي: الكاف واللام والميم والنون والتاء المثناة فوق والألف والباء الموحدة والواو والقاف والياء المثناة تحت ويجمعها قولك كل من تاب وقي وأقلها وقوعاً كذلك الياء.
السابع- أن يعرف أكثر الحروف دوراناً في اللغة، ثم الذي يليه من الحروف في الكثرة إلى أقلها دوراناً.
واعلم أن كلام العرب أكثر ما يقع فيه على ما دل عليه استقراء القرآن الكريم الألف ثم اللام ثم الميم ثم الياء المثناة تحت ثم الواو ثم النون ثم الهاء ثم الراء المهملة ثم الفاء ثم القاف ثم الدال المهملة ثم الذال المعجمة ثم اللام ألف ثم الحاء المهملة ثم الجيم ثم الصاد المهملة ثم الخاء المعجمة ثم الشين المعجمة ثم الضاد المعجمة ثم الزاي المعجمة ثم الثاء المثلثة ثم الطاء المهملة ثم الغين المعجمة ثم الظاء المعجمة، وقد جمع بعضهم أحرف الكثرة في قوله اليمونة وبعضهم يجمعها في قوله اليوم هن وجمع الحروف المتوسطة في قوله رعفت بكدس فخج وجمع أحرف القلة في قوله طظغ صخدز قش.
قال ابن الدريهم: وقد يقع في لفظ غير القرآن على خلاف ذلك كما يتعمدون الظم والنثر بغير ألف أو بغير نقط أو بغير عاطل الحروف أو ألفاظ قليلة، وقد يكون الكلام ألفاظاً قلائل لا تستوعب الحروف.
الأصل الثاني- كيفية التوصل بالحدس إلى حل المترجم.
قال ابن الدريهم: إذا أردت حل ما ترجم لك، فابدأ أولاً بعدد الحروف، وكم تكرر كل شكلٍ منها مرةً فأثبته أولاً فأولاً. قال: وأول ما تستخرج الفاصلة إن كان الذي عمى قد بالغ في التعمية، يعني بإخفاء الفاصلة في ضمن الحروف، وذلك أنك تأخذ حرفاً فتظن أن الفاصلة تكون الثاني فتجريه على ما تقرر من الكلمات من المقادير على ما تقدم، فإن وافق وإلا أخذت الثالث، فإن وافق وإلا الرابع وهكذا حتى يصح لك انفصال الكلمات، ثم تنظر أكثر الحروف جوراناً في الكلام فتقاربه من الترتيب المتقدم في أكثر الحروف دوراناً على ما تقدم، فإذا رأيت حرفاً قد وقع في الكلام أكثر من سائر الحروف فتظن أنه الألف، ثم الأكثر وقوعاً بعده فتظن أنه اللام، ويؤيد صحة ظنك أن اللام يدار في أكثر استعمالاته تابعاً للألف، ثم تنظر إن كان في الكلام حرف مفرد فتظن أنه اللام ألف، ثم أول ما تلفق من الكلام الثنائية بتقريب حروفها حتى يصح معك شيءٌ منها فتنظر أشكالها وترقم عليها، وتجري الكلام في الثلاثيات حتى يصح معك شيءٌ منها فترقم نظائره، ثم تجري الكلام في الرباعيات والخماسيات على الوزن المتقدم، وكل ما اشتبه فاحتمل احتمالين أو ثلاثةً أو أكثر تثبته إلى حين يتعين من كلمةٍ أخرى، فما انتظم لك من ذلك فتثبت الباقي عليه، وإذا رأيت حرفاً قد تقدم الألف واللام في أول الكلمة فتظن أنه إما ياء واحدة وإما فاء وإما كاف غالباً.
قال: وينبغي أن يكتب للمبتدئ أولاً كل كلمة على حدتها منفصلةً، وأن يكتب له الشعر دون النثر، فإن الوزن يساعده على ظهور بعض الحروف، كهاء التأنيث الساكنة وتاء المتكلمة والساكن الذي لا يمكن أن يكون إلا أحد حروف العلة الدائرة في الكلام وأمثال ذلك، ثم ضرب لذلك مثلاً بأنك إذا رأيت هذه الأسطر مكتوبةً بهذا القلم.
قال: فينبغي قبل كل شيءٍ أن يبدأ فيرقم تحت كل شكلٍ من هذه الأشكال كم تكرر مرة أولاً فأولاً على هذا المثال:
فيجد قد تكرر معه هذا الشكل أكثر من كل الأشكال بكثيرٍ، فيعلم أنه الألف فيرقم عليه في مواضعه، ثم المكرر بعده أكثر من باقي الأشكال هذا الشكل فيظن أنه اللام ويحقق ظنه كونه تابعاً للألف في سبعة مواضع من الكلام، ثم ينظر فيجد فيه حرفاً واحداً كلمةً فيظن أنها اللام ألف، ثم يجد الكلمة الثالثة ثنائية ثانيها اللام ألف فيمكن أن تكون إحدى هذه: بلا تلا جلا حلا خلا سلا علا غلا فلا كلا هلا ولا، ثم يجد هذا الشكل الذي مع اللام ألف قد ورد مكرراً في أول كلمة امتنع أن يكون جيماً أو حاء أو خاء أو سيناً أو عيناً أو غيناً أو هاء فلم يبق معنا سوى بلا تلا فلا كلا ولا، ثم يجد الكلمة الخامسة ثنائية ثانيها ألف فيمكن أن تكون إحدى هذه با جا دا ذا سا شا ضا فا ما نا يا، ثم يترجح أنها ما أو يا لن هذا الشكل قد تكرر أكثر من باقي الحروف فيكون إما الميم أو الياء وإن قاربهما النون لكن ما ويا أكثر وقعاً في الكلام من نا فإنها غريبة الوقوع، ثم رأينا هذا الشكل المتقدم قد تلا الشكل الذي مع اللام ألف الذي ظننا أنه أحد هذه ه بـ ت ف ك وفي الكلمة الثلاثية المكرر أولها فجربنا الحروف مع الميم فظهر منها لفظة ففي لا غير ثم نظرنا هذا الحرف فوجدناه وقع في أربعة مواضع في الكلام لا غير، فقلنا إنه الفاء؛ لأن الياء بنسبة هذا الكلام تقع أكثر من ذلك غالباً، فصح معنا أن الكلمة الثالثة فلا والكلمة الخامسة يا والحرف المفرد لا والكلمة الخامسة منه هي رايد ذلك أننا وجدنا الكلمة الحادية عشرة قد تكرر فيها بعد الألف واللام حرفان تلاهما ألف بعده حرف آخر، ولا يمكن أن تكرر حرف في مثل هذا المكان سوى الميم إذا جربته على جميع الحروف، فقلنا: الممات المماح الممار المماس المماع، ورأينا هذا الشكل الذي هو آخر الكلمة قد تكرر أكثر من باقي الحروف بعد الألف واللام والباء، فبقي أن تكون هذه ر س ت ع لأن الميم قد صح معنا ولم يكن النون فعلمنا على الميم في مواضعه، ونظرنا فرأينا هذا الشكل أول الكلمة الرابعة الثلاثية وقد صح ثانيها اللام وثالثها الميم فجربناها على هذه الحروف فسقطت الراء وبقي أحد هذه: سلم تلم علم، ثم نظرنا الكلمة المجارية للممات المماع المماس، فرأينا قبل الألف واللام حرفاً يكون أحد هذه بـ ل و؛ لأن الفاء علمناها، ونظرنا هذا الحرف قد تبع الألف واللام قبل الياء، ووجدناه بين البين في كلمة ثلاثية تكون إحدى هذه أبا أذا أسا أنا، فجربنا الكلمة على الباء والدال والسين والنون على أن يكون الحرف الآخر السين فلم يتفق منه لفظ فسقط سلم ثم جربناها على أن تكون العين فحصل منه بعد الحرف الأول البياع، ثم على أن تكون تاء فحصل منه الثبات السيات فسقط وبقي أبا أسا أنا ثم نظرنا الكلمة السابعة وهي ثلاثية أولها اللام وثانيها هذا الحرف الذي قبل الياء وثالثها هذا الدائر بين العين والتاء قلنا يقوم منها لست وسقط الباء والنون، وإنما لم يقم منه كسع لأنه لما سقطت الباء سقطت العين من البياع، فصح أن تلك السيئات ونظيرها الممات والثلاثية تلم وسقط علم، فرقمنا على التاء في مواضعها وعلى السين في مواضعها، فصارت الثلاثية أسا فقد صح معناه من الكلمات: فلا تلم يا لست الممات لا أسا ففي وبقي الحرف الذي قبل السيئات ثم نظرنا الكلمة العاشرة الثلاثية فيها ت ي فجربناها على الحروف فظهر منها حتى لا يشاركها شيء فعلمنا على الحاء في مواضعها، ثم نظرنا كلمةً خماسيةً قد بقي منها الحرف الوسط، فجربناها على الحروف فقام من ذلك: حسرات حسكات حسنات فعلمنا أنه حسنات؛ لأن هذا الشكل تكرر أكثر من باقي الحروف بعد الألف واللام والياء والتاء، وقد صح الميم فأثبتنا النون في موضعها. ثم نظرنا هذا الشكل في أول كلمتين ثلاثيتين وقد صح من إحداهما ن ي ومن الأخرى ل ي، فجربنا الحرف فوجدناه إما عيناً أو واواً، فيقوم منهما عني علي وبي ولي فتعين أن يكون عيناً لقلة الحرف عن مرتبة الواو. ثم نظرنا كلمة سباعية قد بقي منها حرف مجهول، جربناها على الحروف فصحت البيان لا يشاركها لفظةٌ أخرى، وللحرف هذا الشكل الذي قبل السيئات فتعينت الباء في مواضعها. ثم نظرنا كلمةً سداسية ثالثها حرفٌ مجهول، فجربناها فظهر منها الكتاب ثم نظرنا كلمة خماسية قبل التي قبل هذه قد بقي حرف الوسط منها مجهولاً، فجربناها على الحروف فقام لمحيف لمدنف لمصنف فتعينت لمصنف بسبب سياق الكلام بلفظ الكتاب ورقمنا على الصاد. ثم نظرنا الكلمة الأخيرة قد بقي منها رابعها مجهولاً، فجربناها على الحروف فصحت الموصل وصحت الكلمة التي بعد لست أنها أسلو فرقمنا على الواو. ثم نظرنا الكلمة الأولى وهي ثنائية أولها ص فجربناها فصحت صد، وإنما كنا أخرناها لقلة وقع حروفها، ثم علمنا على الدال فوجدنا كلمةً ثنائية آخرها د فجربناها على باقي الحروف التي لم تظهر، فقام منها جد حد قد هد. ثم نظرنا كلمة ثلاثية فصح أولها ت وآخرها ل وسطها هذا الحرف الذي قبل الدال في الثنائية، فجربناها على الجيم والخاء والقاف والهاء، فسقطت الهاء وبقي تجل تقل تخل. ونظرنا فرأينا سياق الكلام يدل على أن الكلمة قبل أسا قد والثلاثية تقد فانتظم الكلام لا تقل قد أسا. ثم نظرنا الكلمة السادسة قد بقي منها ثانيها مجهولا، فجربناها على باقي الحروف فصحت عذولي، فرقمنا على الذال في مواضعه، ثم نظرنا الكلمة الثلاثية التي بين لمصنف وبين الكتاب أولها هذا الشكل قد صح منها ذا فعلمنا أنها هذا ورقمنا على الهاء، ثم نظرنا الكلمة الخماسية التي بين ففي وبين منه قد بقي رابعها، فجربناها على باقي الحروف فصحت الوجه. ثم نظرنا الكلمة السباعية التي قبل الأخيرة وقد بقي منها رابعها مجهولاً، فجربناها فظهر منها الدريهم، فتكمل الحل وظهر الكلام خفيف. محيف لمدنف لمصنف فتعينت لمصنف بسبب سياق الكلام بلفظ الكتاب ورقمنا على الصاد. ثم نظرنا الكلمة الأخيرة قد بقي منها رابعها مجهولاً، فجربناها على الحروف فصحت الموصل وصحت الكلمة التي بعد لست أنها أسلو فرقمنا على الواو. ثم نظرنا الكلمة الأولى وهي ثنائية أولها ص فجربناها فصحت صد، وإنما كنا أخرناها لقلة وقع حروفها، ثم علمنا على الدال فوجدنا كلمةً ثنائية آخرها د فجربناها على باقي الحروف التي لم تظهر، فقام منها جد حد قد هد. ثم نظرنا كلمة ثلاثية فصح أولها ت وآخرها ل وسطها هذا الحرف الذي قبل الدال في الثنائية، فجربناها على الجيم والخاء والقاف والهاء، فسقطت الهاء وبقي تجل تقل تخل. ونظرنا فرأينا سياق الكلام يدل على أن الكلمة قبل أسا قد والثلاثية تقد فانتظم الكلام لا تقل قد أسا. ثم نظرنا الكلمة السادسة قد بقي منها ثانيها مجهولا، فجربناها على باقي الحروف فصحت عذولي، فرقمنا على الذال في مواضعه، ثم نظرنا الكلمة الثلاثية التي بين لمصنف وبين الكتاب أولها هذا الشكل قد صح منها ذا فعلمنا أنها هذا ورقمنا على الهاء، ثم نظرنا الكلمة الخماسية التي بين ففي وبين منه قد بقي رابعها، فجربناها على باقي الحروف فصحت الوجه. ثم نظرنا الكلمة السباعية التي قبل الأخيرة وقد بقي منها رابعها مجهولاً، فجربناها فظهر منها الدريهم، فتكمل الحل وظهر الكلام: [خفيف]
صدّ عنّي فلا تلم يا عذولي ** لست أسلو هواه حتّى الممات

لا تقل قد أسا ففي الوجه منه ** حسناتٌ يذهبن السّيّئات

هذا البيان لمصنف هذا الكتاب، علي بن الدريهم الموصلي.
وعلى مثل هذا المنوال يجري الحل، ثم انظر إلى حروف هذا الكلام كيف جاءت أحداً وعشرين حرفاً، ونقص منه ثمانيةٌ لم توجد فيه، فإذا نظرت إلى ما قررت لك من ترتيب وقع الحروف كما جاءت في الكتاب العزيز، رأيت الثمانية الناقصة هي آخر الترتيب سواء لم يختلط منها شيء بتقديم أو تأخير، وهذا اتفاقٌ؛ لأنه قد يقع الحرف قريباً من رتبته كما تقدم وكما تقدمت الياء على الميم في هذا الكلام، والفاء على الميم والنون، وتقدمت الهاء على الميم أيضاً، لكن الأصل معرفة وقع الحروف بالتقريب وتجربة الكلمات، ومقاربة ما دل عليه سياق الكلام.
ولنضرب مثالاً آخر: لتتضح أنواع الحل.
وهذا مثال آخر أورده ابن الدريهم، وهو: فتعدد المكررات من الأشكال كما مر وترقمها على هذه الصفة.
فتنظر فإذا أكثرها وقعاً ثم ثم ثم هذين ثم هذين ثم هذا ثم هذه فتظن أن هذا الشكل الألف، وهذا اللام؛ لكونهما أكثر وقعاً من الجميع فلم يوافق؛ لأنه قد تقرر أن اللام تكون تابعة للألف في أكثر المواضع ولم نجده تبعه البتة، بل وجدنا العكس فعلمنا أن هذا هو الألف وهذا هو اللام، ورقمنا عليهما في مواضعهما فإذا الكلمة الثانية الثلاثية فيها لامان، بقي حرف آخرها مجهول، فجربناها على الحروف فظهرت الهاء لا يمكن غيرها، فعلمنا أنها لله ورقمنا على الهاء في مواضعها، ثم وجدنا الكلمة الخماسية قد بقي رابعها مجهولاً، فجربناها فظهر الهما ألهجا ألهما الهنا، ووجدنا الحرف قد تكرر أكثر من كل الحروف بعد الألف واللام، فظننا أنه الميم، لكنه يحتمل أن يكون النون، وسقط الباء والجيم فوجدناه في الثنائيات في كلمتين قبل الألف، فعلمنا أنها ما فرقمنا على الميم في مواضعها، ثم رأينا الميم قد تبعه في الثنائيات حرف يحتمل أن يكون مد مر مس مص مط مع من، ورأينا الحرف كثير الوقوع، وقد تكررت ثلاث لفظات، فعلمنا أنها من ورقمنا على النون في مواضعه، ثم رأينا هذا الشكل أكثر من غيره وهو قبل الألف واللام وفي أوائل الكلمات فقلنا إنه الواو، ثم رأينا آخر كلمة قد بقي منها رابعها مجهولاً، فجربناها فظهر والبهم والتهم والجهم والدهم والسهم والشهم والفهم واليهم، ثم وجدنا هذا الحرف الذي فيها قد جاء قل حرف في الثنائيات وذلك أكثر ما وقع بعد الألف واللام والميم، فيحتمل أن يكون الياء، ووجدنا قد بقي من كلمةٍ هذا الحرف فصح أن يكون النهى وأخرى أولي، فعلمنا أنها الياء، فجربنا الحرف معها، فظهر بي ني، ووجدنا كلمة خماسية هذا الحرف رابعها وبعد حرفٌ آخر، جربناها على الياء والفاء فظهر اللبث اللبد اللبس اللبط اللبك اللفت اللفج اللفح اللفظ اللفق. ثم وجدنا هذا الحرف الآخر أول كلمة بعده لامان وهاء، فجربناها فظهر منها الحرف الثالث مجهولاً، جربناها ظهر التمام الحمام الذمام الشمام الغمام الكمام، فرأينا سياق الكلام يدل على أنه ظلل الغمام وتعينت تلك اللفظة والأخرى الفهم والثنائية، فرقمنا على الفاء، ثم رأينا الكلمة الثالثة الثلاثية ثانيها لام وآخرها ياءٌ وبعدها ما ألهما فدل سياق الكلام على أنها على فرقمنا على العين، فرأينا الرباعية التي بعد وآله قد بقي ثالثها مجهولاً، فجربناها فظهرت معجن معدن فتعين معدن والثنائية التي بعدها، وقيل علم كل فرقمنا على الدال في مواضعه ورأينا الكلمة الأولى قد بقي وسطها مجهولاً، فجربناها وظهرت الثمد الحمد الصمد، فدل سياق الكلام أنها الحمد؛ لأن بعدها لله على ما ألهما فرقمنا على الحاء في مواضعها، ورأينا الثالث من الرباعية التي بين على وظلله، فجربناها فظهرت الذي ورأينا الكلمة الخماسية التي بعد محمد قد بقي رابعها مجهولاً، فجربناها فظهرت النبي فرقمنا على الياء في مواضعها ورأينا قد بقي ثالث السداسية التي بعد من هذا الشكل وهو ثالث رباعية أولها الأولف وثانيها فاء وآخرها حاء، وثاني خماسية أولها واو وثالثها حاء ورابعها باء وخامسها هاء، فتعينت الصاد، فالأولى الصواب والأخرى أفصح والأخرى وصحبه وتعينت الثنائية التي هي أول البيت الثاني بعد السطر الأول ثم والتي تليها صلاة وتعين السين في السلام، فصار ثم صلاة الله والسلام وكلما تمرن الإنسان في ذلك ظهر له أسرع بكثرة المباشرة، ثم تعين رابع السداسية التي بعد أفصح من أنه الضاد، وتعين بسياق الكلام أن بعد بالضاد في اللفظ نطق فرقمنا على القاف فرأينا مجاريها الثلاثية من رأس المصراع خلق فرقمنا على الخاء، وتعينت الكلمة التي قبل من خلق أنها خير فتكلمت الأببيات وظهر أنها رجز.
الحمد للّه على ما ألهما ** من الصّواب وعلى ما علّما

ثمّ صلاة الله والسّلام ** على الّذي ظلّله الغمام

محمد النبيّ من خلق ** أفصح من بالضاد في اللّفظ نطق

وآله معدن كلّ علم ** وصحبه أولي النّهى والفهم

قلت: ومما يلتحق بتعمية الخط المتقدمة الذكر ما حكاه ابن شيثٍ في معالم الكتابة، أن بعض الملوك أمر كاتبه أن يكتب عنه كتاباً إلى بعض أتباعه يطمنه فيه ليقبض عليه عند انتهاز فرصةٍ له في ذلك، وكان بين الكاتب والمكتوب إليه صداقةٌ فكتب الكتاب على ما أمر به من غير خروج عن شيءٍ من رسمه، إلا أنه حين كتب في آخره إن شاء الله تعالى جعل على النون صورة شدة، فلما قرأه المكتوب إليه، عرف أن ذلك لم يكن سدًى من الكاتب فأخذ في التأويل والحدس فوقع في ذهنه أنه يشير بذلك إلى قوله تعالى: إنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ. فأخذ حذره، واحترز على نفسه، وبلغ الملك احترازه على نفسه فاتهم الكاتب في أنه ألحق في الكتاب شيئاً نبهه به على قصد الملك، فأحضره وسأله عن ذلك، وأمره بأن يكتب الكتاب على صورة ما كتب به من غير خروج عن شيءٍ منه، فكتبه ولم يغير شيئاً من رسمه حتى إنه أثبت صورة الشدة على النون، فلما قرأه الملك ونظر إلى صورة الشدة أنكرها عليه، وقال: ما الذي أردت بذلك؟ قال: أردت قوله تعالى: إنّ المَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ. فأعجب بذلك وعفا عنه لصدقه إياه.
النوع الثاني الرموز والإشارات التي لا تعلق لها بالخط والكتابة وهي التي يعبر عنها أهل المعاني والبيان بالاستعارة بالكناية بالنون بعد الكاف وقد يعبر عنها بالوحي والإشارة.
ومن غريب ما وقع في ذلك ما حكاه العسكري في الصناعتين: أن رجلاً من بني العنبر أسر في بني حنظلة، وفهم عنهم أنهم يقصدون الغارة على قومه بني العنبر، فقال لبني حنظلة: إن لي حاجةً عند أهلي وأريد رسولاً من قومكم أرسله فيها، فأجأبوه إلى ذلك بشرط أن يخاطبه في حاجته بحضورهم، فأحضروا له رجلاً في الليل وقد أوقدت العرب نيرانها، فأقبل على الذي أتوه به وقال له: أتعقل؟ قال: إني لعاقلٌ. فقال: انظر إلى السماء ونجومها، فنظر، ثم قال: انظر إلى نيران العرب، فنظر، فقال له: ما أكثر؟ نجوم السماء أو نيران العرب؟ فقال: إن كلاً منها لكثير، قال: إنك إذاً لعاقل، ثم دفع إليه حنظلةً وصرةً فيها رمل وصرةً فيها شوك، وقال: اذهب إلى قومي فادفع إليهم هذه الحنظلة وهاتين الصرتين، وقل لهم يعروا ناقتي الحمراء، ويرحلوا جملي الأورق، وسلوا أخي الأعور يخبركم الخبر. فقال الحاضرون: ليس في هذا ما ينكر، اذهب في حاجته، فذهب إلى بني العنبر ودفع إليهم ذلك وقص عليهم القصة ورجع، فبعث القوم إلى أخيه الأعور فحضر، فأخبروه الخبر. فقال: إنه يقول. أتاكم بنو حنظلة في عد الشوك والرمل، وإن نيران العرب تعاد نجوم السماء، ويأمركم أن ترحلوا عن الدهناء وانزلوا مكان كذا، ففعلوا ورحلوا لوقتهم فصبحهم بنو حنظلة فلم يدركوا منهم أحداً.
وفي معنى ذلك ما حكاه المقر الشهابي بن فضل الله في كتابه التعريف في الكلام على المكاتبة إلى الأذفونش ملك الفرنج بطليطلة من بلاد الأندلس، كان خبيث النية، سيئ المقاصد لأهل الإسلام، وأنه أرسل مرة إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون، صاحب الديار المصرية هديةً فيها سيفٌ وثوبٌ بندقيٌ وطارقةٌ مستطيلة تشبه النعش كأنه يقول: أقتلك بهذا السيف، وأكفنك في هذا الثوب، وأحملك على هذا النعش. قال: وكان الجواب أن أرسل إليه حبلاً أسود وحجراً، أي إنه كلب يرمى بهذا الحجر أو يربط في هذا الحبل.
قلت: ومما وقع من ذلك في زماننا أنه في الدولة الظاهرية برقوق وتمرلنك يومئذ ببلاد العراق يغاور الممالك الشامية لقصد الاستيلاء عليها ورد عليه كتابٌ من المملكة الحلبية فيه: أنه وقع بتلك البلاد سيلٌ عظيم ساق جملةً من الأسد والنمورة والحيات، وأنه دفع حية عظيمةً سعة رأسها بقدر قوس، وقريء الكتاب بحضرة السلطان، وحملوا ذلك على ظاهره، من أن المراد حقيقة السيل، وأنه لقوته ساق تلك الحية والسباع وغيرها، وشاع ذلك بين الكافة من الأمراء وأهل الدولة وسائر الرعية، ومضى الأمر على ذلك، ثم ظهر أن المقصود بذلك السيل وما فيه هو تمرلنك وعساكره، وأنه كني بالحية العظيمة عن نفسه، وبالسباع والحيات عن عساكره.
ومن لطيف ما وقع في ذلك أنه ورد على السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق في أواخر دولته كتابٌ عن صاحب تونس من بلاد المغرب في آخره خطاباً للسلطان وعلى إحسانكم المعول، وبيت الطغرائي في لأمية العجم لا يتأول فسألني بعض أعيان ديوان الإنشاء عن المراد من ذلك ولم يكن الكتاب متضمناً لغير الوصية على حجاج المغاربة، وكان ركب المغاربة قبل تلك الحجة قد عرض لهم عارضٌ من عرب درب الحجاز اجتاحوهم فيه، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ونهبوا منهم أموالاً جمةً، فعرضت ذلك على أبيات اللأمية، فلاح لي أنه يشير إلى قوله فيها: [بسيط]
فقلت أرجوك للجلّى لتنصرني ** وأنت تخذلني في الحادث الجلل

والجلى بضم الجيم هي الأمر الجليل العظيم، والجلل بفتح الجيم في اللغة من أسماء الأضداد، يقع على الشيء الجليل وعلى الشيء الحقير، كأنه يقول: أنا كنت أرجوك للأمور العظام لتنصرني فيها فخذلتني في هذا الأمر الخسيس، وهو الأخذ بثأر حجاج بلادي ممن اعتدى عليهم من عرب بلادك، فخاب ظني فيما كنت أرجوه فيك، وأؤمله منك، وأشار بقوله لا يتأول إلى أنه لا يحمل الجلل في قول الطغرائي على الشيء الجليل كما قال الصلاح الصفدي في شرح اللأمية، بل على الأمر الخسيس؛ لأنه هو اللائق بالمقام.
واعلم أن مثل هذه الأمور تحتاج إلى قوة ذكاء واحتدام قريحة من الذي يقع منه الرمز، وإلى قوة حدس من الذي يحأول إدراك المقصد من تلك المعامي كما يقع في الألغاز والأحاجي للملغز، والمتصدي لحل ألغازه والجواب عنه، والله تعالى هو الهادي إلى سبيل الصواب.